ذهبت اليوم إلي ديدة مبكرا علي غير عادتي كنت طوال الطريق شاعرة أني عصفورًا بجناحين يطير مسرعا نحو ماضي جميـل أبطاله أشياء بسيطة وليس بها روح ولكنها كانت سبب في إسعاد روح.
وصلت لديدة وطرقت الباب وقلبي دقاته عالية الصوت سمعتها ديدة عندما فتحت الباب ووجدتها ماسكة في يدها الشكمجية ضحكت وقلت: أنتي في انتظاري وواثقة أني قادمة؛ دخلت ووجدتها جهزت القهوة وشاورت لي بالجلوس قابلتي أمس الضفيرة الثانية؛ سرحت قليلا سرحت بذاكرتي لعام 77) كان عمري سبع سنوات وكنت أدرس بالعام الثالث في مدرسة تشرف عليها مُعلمات إيطاليات؛ وكانت تدرس معي تلميذة جميلة جدا..جدا ولكن شعرها قصير جدا يشبه في قصره شعر الولد وكنت شديدة الاستغراب... وبعد فترة من الاختلاط وتقربت جدا مني وكنت صديقتها الوحيدة نتناول وجباتنا سويا وندرس سويا في حجرة المذاكرة ونمارس أنشطة متشابهة وبعد فترة أحببتها ودار بيننا حديث كان نقطة تحول في حياتي..
صديقتي... ما أروع ضفائرك وطول خصلات شعرك ولونهم؛ ابتسمت وأحمر وجهي خجلا... وترددت في طرح التساؤل الذي دار من أول يوم لي في الدراسة؛ لكن هي فتاة لماحة وذكية وعفيفة جدا.وقرأت في عيوني السؤال وفورا سألت هل تريدين معرفة سبب قص شعري باستمرار؟؟..
أنا فتاة يتيمة وفقيرة جدا والشعر الطويل يحتاج لأشياء كثيرة للعناية والرعاية؛ وطالما تمنيت أن يكون لي ضفيرة جميلة مثلك...
نظرت إليها وعيوني تمتلئ بالدموع وربت علي كتفيها وقلت: أنت جميلة وتمتلكين عيون ساحرة وروح نقية ومرحة ولديكي جواهر نادرة؛ وأنا أحبك جدا. إلي هنا انتهي حوارنا؛ ورجعت إلي بيتي وطلبت من أمي أن تقص شعري ودار حوار طويل واعتراض منها ولم اقتنع بكلام أمي وما قالته البنت لازم شعرها يكون طويل؛ عنوان البنوتة شعرها وأنتي الله منحكي خصلات شعر لونها جميل وخيوطها حرير. لم أقتنع ونقلت الحوار لديدة وسألتني عن سبب هذا الطلب حكيت إليها كل الحكاية. فأقنعت أمي بتلبية رغبتي بعدما علمت حقيقة رغبتي في قص ضفائري وإهدائها لصديقتي؛ وجاءت ديدة بالمقص وقصت الضفيرتين وأعطتني واحدة واحتفظت بالأخرى في الشكمجية؛ فرحت وذهبت اليوم التالي وقابلت صديقتي وأول وهلة صُعقت صديقتي عندما رأت ضفيرتاي قد اختفت؛ وقبل أن تسألني ناولتها علبة صغيرة وطلبت منها فتحها وفعلت ونزلت دموعها لما رأت ضفيرتي بداخلها؛ وقلت لها أنها هدية مني وأمسكت بالمشط ومشطت شعرها القصير ووضعت ضفيرتي بالبنس علي خصلاتها القصيرة بكينا سويا وكلانا تبكي لشيء ما بداخلها؛ ظلت تتلجلج ولم تستطع قول كلمة واضحة؛ سارعت ومسحت دموعها وقلت أصبحنا متشابهتان الآن صديقتي ضفيرتي تزينك وحققت رغبتك في امتلاك خصلات طويلات؛ وأنا تزينت بحبك وودك وصداقتك.
ومرت الأعوام والسنين وانتهت مراحل التعليم وسافرت أنا؛ وانقطعت أخبارها ورسائلها التي كانت تُرسلها.
حفيدتي...حفيدتي... أين ذهبتي؟؟؟ ديدة تذكرت حكاية الضفيرة ولولاك يا ديدة ما اقتنعت أمي وما استطعت إدخال البهجة والفرحة علي صديقتي اليتيمة. فاكرة يومها عندما سألتك لماذا احتفظتي بالضفيرة الثانية؟؟ قلت لي: حتى أذكرك دائما بما فعلتي لو دخلت ذرة قسوة لقلبك أو نالت الدنيا من نفسك وتهوتي عنها. ما أروعك ياديدة... ما أجملك...
رددت ديدة علي بل ما أروعك أنتي يا حفيدتي علمتي كل العائلة درس غالي وقوي كنت طفلة جميلة ونقية القلب تصرفت بفطرة ونقاء وإصرار وتخليت عن الجمال لأجل الأجمل؛ وهي رؤية ابتسامة صديقة وتحقيق أمنية ليتيمة؛ وعشت حياة هادئة بهدوء نفسك وطالت خصلاتك من جديد بل أطول وكأنها مكافأة الله إليك يا حفيدتي. ضحكت وقلت أتعلمي يا ديدة بعد قص ضفيراتي جريت ونظرت بالمرآة وبكيت.. وبكيت.. وبكيت وشعرت بقدوم أمي فمسحت دموعي؛ ودخلت هي وقالت: نادمة وتبكين لا تبكي يا صغيرتي من تفعل ما فعلتي لا تحزن وغدا سيعوضك الله يا جميلتي ولتعلمي الجمال الحقيقـــي هو جمال الروح والفعل والخُلق الحسن. والحمد الله أنتي تمتلكين هذا الجمال الحقيقي. ومع الأيام خصلاتك ستنمــو وتصبح أجمل وأطول وتكبري وتتذكري القلوب تنبض بالرحمة ولا يسكن بداخلها قسوة حبيبتي ماما فخورة بابنتها الجميلة. ارتميت بحضنها وابتسمت وقويت بكلامها.
واليوم... تتلاقى ضفيرتاي ولم تتغير لا في شكلها ولا لونها بعد مرور أكثر من أربعين عامًا... جاءتني بالأمس صديقتي ومعها ابنة جميلة تمتلك ضفيرة طويلة وفرحت بهما جدا، وحكت لي عن رحلتها الطويلة وكيف كانت حريصة علي الاحتفاظ بضفيرتي وأنها حكت لأولادها قصتنا، وأخبرتني أن ضفيرتي هونت عليها صعاب وألم وكانت كلما قابلت أناس قاسية قلوبهم تجري وتُخرج الضفيرة وتمسكها بين يديها فتشعر بلمسة اللين والحنان تسير بين يديها وترفعها علي أنفها فتتنفس رائحة العطف والود ثم تضعها فوق رأسها تشعر بالدفء.ضفيرتي كانت تُخبرها أن هناك أناس طيبين كوني منهم ومثلهم.
قالت: قد يكون يومها كنت صغيرة وردي كان البكاء ولكني اليوم كبرت وخبرتي ازددت ولكن مشاعري وقلبي لم يتغيروا؛ فلتعلمي يا غالية كلما طالت خصلات شعري أقوم بتضفيرها وقصها وإهدائها ليتيمة لكي أشعر بشعورك وتشعر هي بشعوري..تعلمت منك العطاء الغالي، والخسارة هي ما يموت فينا ونحن أحياء. شكرا... لخصلة شعر بسيطة وضعيفة في تكوينها ولكن كانت مثل حد السيف فرقت بين النقيضين وعلمتني أن الفرحة يمكن أن تنقسم بين أثنين.